إذا كان الشعر طريقاً للوصول إلى الألم عند بعض الشعراء، فإن الألم عند عقيل علي هو الطريق المعبد والجاهز للوصول إلى الشعر. الشاعر العراقي الذي مات مشرداً في شوارع بغداد، لم يعلن شعريته إلا موته. وهو بأية حال، كان موتاً فيزيولوجياً متمماً لموت التواصل مع الحياة. لم يكن عقيل ديناميكياً أو فلنقل براغماتياً. لقد آثر حقيقته الخاصة، جاورها وانقضت أيامه وهو يحاورها ويحدق في ملامحها ويحاول التخلص منها بالشعر. إن هذه الحقيقة ارتبطت بمستوى خص من المأساة. هي أولاً سياسية (مرهونة بالنظام العراقي السابق)، وثم عراقية. لكنها لا تبدأ إلا من شعور عام بإنسانية، لا تهاجم ولا تناور بل تطرح الواقع بكل تفاصيله وجروحه ومعوقاته بغية التخلص منه وقف عقيل علي على الضفة الأخرى، من المأساة- المزيج الذي ابتكره النظام العراقي، وخلف آثاره ماثلة أمام عينيّ الشاعر. لكن هذه المأساة العامة، تركت لدى نفس عقيل علي، مأساة خاصة، استحضرت بكل ملامحها وكل طموحها وعليائها. المأساة كانت تمر، كما يبين لنا شعره، بمراحل. تتطور وتتفاقم، حتى لتأخذ منحى في غاية الخطورة، تشترط ملازمة الشاعر لها. علاقته بالمأساة أصبحت فيما بعد أشبه بعلاقة مريض مع مرضه، وليس مع دوائه. أصبح المرض شرطاً للإحساس بالألم، والتوغل فيه. وهذا ما حدث لعلي. فالإبتعاد عن أرض العراق، يعني الابتعاد عن مربع المأساة، وبالتالي ابتعاد عن المادة الجاهزة التي يرى من خلالها العالم، ويكتبه. كان هذا خطأ أوله الشاعر ميتافيزيقياً قبل أن يمارس ارتكابه لاحقاً. لم يكن على المشهد العراقي أن يتغير. وهذا إيمان بمثابة خلاصة لتجربة عقيل. لم يعد الشاعر يطالب المشهد العراقي بأن يتغير بقدر ما أصبح يطالب نفسه بالتلصص أكثر فأكثر على الحياة التي تمر امامه دون ان يكون راضياً عنها. لعله إيمان بمعنى آخر.
إيمان بأن لا شيء يتغير، وبالتالي تحول في إيمانه الأول والمتمثل بضرورة تبدل الوضع أو تحسنه قليلاً في أفضل الأحوال. هكذا، انتقلت عينه مع الزمن لتتموضع في زوايا أخرى أمام المأساة العامة. قراءته للعالم- العراق، لم تتغير. ما تغير هو فقط البعد الهندسي الذي يتأسس عليه الزمن، للكتابة. أي أن خيط الزمن، أعيد جدله في قصائده لعشرات المرات. مرة في الميثولوجيا، ومرة في الواقعية. مرة في الحلم، ومرة في ذوبان الجسد على الشارع. وإذا ذكرنا الميثولوجيا هنا، فجدير بنا أن نشير إلى أن عقيل علي، لم يكن يستعير الميثولوجيا لبناء ملحمته وإسقاطها عليها بشكل علني ومباشر كما فعل الكثير من الشعراء أمثال محمود درويش. كانت الميثولوجيا بالنسبة له درس في القدرية، والأمل. فهو لم يكتبها، بل اكتفى باستعارة ملامح منهجها، في معادلة الشمس التي تستحق انتظارها بعد الليل المرهق. لذلك، نقرأ في بعض قصائده ملاحم عصرية، يمتزج فيها الألم، بالتوحد والغيبوبة والسكر الكلامي، والاستحضار لكل ما يحلم به. وهو استحضار عنيف بطبيعته، مكثف وبنّاء.
إن قصيدة عقيل علي، المفاجئة لخصوصيتها، ولإحكام إقفال عبارتها في الكثير من الأحيان، تشبه مفردة في القاموس. مفردة متعددة المعنى، تتشعب لكن لا تطأ أرض غيرها. بهذا المعنى، فإن الشعر الذي يكتبه عقيل علي، لا يجرد العالم من حركته، ولا من خصوصيته. بل يحمل في طياته، شماتة عميقة به، ليس بأداء المعنى، بل بأداء الأسلوب. فأن يبني شاعر صوته على أسس العالم المهدوم والهلامي، وأن يستطيع التحرك في شعره داخل جسم هذا العالم، فهذا يعني أن هناك على الأقل، نوعاً من اللا- طلاق بين الكاتب والمكتوب. وهذا اللا طلاق، يشبه إلى حدٍ كبيرٍ، زواجاً مارونياً لا يتيقن طرفيه بحقيقة استحالة الفكاك منه. قبل أن يصبح كل منهما مبرراً لوجود الآخر من خلال الألم فقط. لن نقسو على الشاعر الذي لم نتعرف إليه، والذي تدهشنا قصيدته وترفعنا إلى حالات من الهذيان الغني والسمين. كما ولنا أن نحترم شجاعته وهو الذي انتهج حيادية، وفرادة في التعبير وتوظيف العبارة، واقتصادها في الكثير من قصائده، لقول ما يريده بأقصر الجمل الممكنة، وكأن المشهد الموازي له، يمر سريعاً من أمامه وهو لا يريد إفلاته لحظة.
لن نتطرف ونقول بأن عقيل علي يمثل إشكالية. لكن إذا تمعنا في سيرة حياته الموجزة والتي كتبها الناقد والشاعر العراقي كاظم جهاد، فسنقول بأن الكثير من ملامح حياته تمثل اشكاليات صغيرة، يكفي تراكمها في ذات الشاعر، لتتبلور من خلالها علاقته مع المكان- العراق والقصيدة كعراق بديل يزاحم الأول. لكن الإشكالية الكبرى، تتمثل في موته. وما يطرحه هذا الموت من دلالات خطيرة. عقيل علي، قارئ نهم ومثقف عارف بالكثير من قضايا الشعر، رافض لنظام سياسي وعسكري مرفوض أساساً، يلقى نهاية كارثية على الطريق الذي اختاره. نزيف داخلي حاد وفشل في الكبد، لا سيارة إسعاف ولا يد تتمكن من عونه. طريقة الموت هذه تمثل صفعة على خد القرن الواحد والعشرين. وعلى كل حال، فإن النظام السياسي قد لفظه، و"النظام" الثقافي كذلك قبل أن يلفظه الشارع، الذي التزم به طويلاً. لكن السؤال، هل ممكن قراءة أعمال شاعر بمعزل عن منهج حياته؟ لو كان الإجابة نعم، ففي حالة عقيل علي، تكون هذه الإجابة استثنائياً، لا.
إكتفى بإصدار مجموعتين شعرييتين، عامي 1978 و1979 ("جنائن آدم" و"طائر آخر يتوارى"). وآثر بعدها صمتاً طويلاً، كان أشبه بالخرس الشعري، قبل أن يطلق سراح قصائده غير المنشورة، قبيل رحيله، إلى الشاعر خالد المعالي. دار الجمل، أعادت طبع كامل أعماله الشعرية، في كتاب حمل عنوان مجموعته الشعرية الأولى "جنائن آدم". ثلاث مساحات تؤلف مضمار شعر عقيل علي:
مساحة المرأة- الحب، وما تنضوي عليه من ارتحال في الجسد الذكوري والأنثوي، دون أية مقاربة إيروسية، أو في القليل من الأحيان إيروسية خجولة. ثم هناك مساحة الوطن، الذي يتم تكثيفه إلى مكان مجرد إلا من بعديه البشري والزمني، وأسبابه (المناخ، البيئة)، ومعالجته سياسياً، وذهنياً. ومساحة الأنا التي يتم إعلانها متأخرةً عن المساحتين السابقتين، لتنازل الشاعر عنها أو لإلحاقها ضمناً بإحدى المساحتين السابقتين "آن للعين أن تكف عن الافتتان/ آن لليد أن تكتسح أخطاءها/ آن للفم أن يعلن عن الخدعة/ آن لي أن أقول: بالتأنيب ملأنا الدفاتر/ للندم تركنا لب السلاح/ وبالطائر أعلنّا النهاية". إن مساحة الذات ههنا، تتجزأ إلى ما هو عضوي، يكون تفاعله مع العالم تفاعلاً مدخلاً إلى غياهب الذات، كوحدة قائمة بذاتها قبل أن تعلن انسحابها سريعاً وبشكل أنيق مخلية الساحة نحو مساحة أخرى أكثر أولوية، وهي مساحة المكان الذي لا ينفصل عن الزمن ولا عن الذاكرة. والذاكرة بدورها تتوارى عن القارئ، بعناصرها (التأنيب/ الندم/ الطائر)، لصالح ما تبقى (الدفاتر/ قلب السلاح/ النهاية). من هنا، يتكون الشعر حياة بديلة، وأوتوماتيكية (أو هذا ما يريد الشاعر إيهامنا به) ومنطوقة في موازاة الصمت القاسي الذي اختاره احتجاجاً. لكن مكان عقيل علي، ليس إلا برجاً متصدعاً، متنازلاً عن كينونته، لصالح الرؤيا. ففيه يتم استبدال ما هو غير خارق (الأم/ر؟ الواقع) بما هو خارق (الأمل وإن منخفضاً)، كما يستبدل الجسد بأسباب وجوده. لكن برجه غير العالي، والمتصدع، يكفي لاحتمال مزاج وعناد وثقل رجل واحد فقط لا غير هو عقيل علي. كل ما تقع عليه عينه يشكل مادة هذا البرج، بما فيه عقيل نفسه، الذي يحتاج لدفع ذاته بعيداً كوسيلة لإقناع نفسه بوجودها من خلال تأسيس لغة بينهما، بعد أن أصبح المحيط العام للشاعر، خالياً من الأسباب التي تدفعه إلى القناعة به "لشبيهي الحر؟/ سأعطي قوتي/ لنناديهم بأسمائهم/ وننسج منذ الآن خواء خوائهم/ هو ذا سرهم/ لقد جاءوا/ ها هي ذكرى مديح الوردة تستيقظ/ ها هو يدنو ليطعن الدموع الحبيبة/ ها هو يدنو ليمضي بلسانه/ الموجة الفانية تطعن، لاهثة، صراخها/ هو ذا شتاء النقود".
إلا أن هذا لا يمنعه من محاولة وطء لغة أخرى تنطلق كأوكسجين احتياطي او أخير، للتنفس بعيداً عن التعب "إحلم ولو مرة بلمسة تحنو/ على تراب بيتك/ إحلم فهذا الهمس الذي يوقظنا من أحلامنا/ صعب عدّ أعضائه/ لأنه اليقظة الدائمة/ يكفي أن تلامس تراب بيتك/ وتقبّله/ يكفي أن تحنو عليه/ يكفي أن تغني له بكلمة "نعم"/ ويكفي أن تغني له بكلمة "لا"/../ أنت تعرف جيداً/ أنه في العتمة لا بد أن يوجد/ قليل من الضوء". هذا المناخ المغاير لقصيدته العامة، يأخذ شرعية أقوى في وجود المرأة، أو الحب أو الشهوة مثلاً، إذ أنه في مثل هذه الأحوال، تنكسر الذات مجدداً، ليعاد بنائها بشكل أوضح وأكثر كثافة بما يخدم الحالة الموقتة "على النسوة/ طوال ذلك الصباح/ كنت أوزِّع شهوتي من أجل الذكرى". لكن يبقى أن هناك جزءاً من فتات هذه الذات الجديدة، بعيداً عن صورة الحب، كأنه ما يحدد التباس الشاعر مع حالته الجديدة ("من أجل الذكرى"). من هنا، يبدو أن لا صفاء تام ما بين الشاعر وذاته، كما أن حرباً مفتوحة على القلق ومغلقة على هاجس الغياب كاحتمال حتمي في ظل الحالة العراقية، أو تغييب النفس، كحاجة إلى هذا الاحتمال. لن نرثي عقيل علي، لأننا اكتشفناه، شاعراً كتب قصائد التعب، قصائد المشي، قصائد الشارع، قصائد الأمل أو الرضا القليل بالأشياء، وهو رغم قتامة مناخه، وسوداوية أفقه، يظل إغراءً شعرياً، يشدنا نحو جمالية تشبه اغترابه عنا.